(Array|find{1818}|oui)

ثورة شعبية أزاحت كابوس الحكم الأبدي

قبل 50 يوما عن هذه اللحظة، دخلت البلاد في دوامة يأس بعد إعلان ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة. كانت علامات الهزيمة النفسية بادية من رتابة المشهد الذي لم يكن يُسمع فيه إلا ضجيج المتزلفين، وقد وصل بهم الحال إلى ما يشبه "تأليه" الرئيس العاجز، كل ذلك أمام دهشة الجزائريين الذين لم يجدوا إلا السخرية كوسيلة للهروب من ذلك الواقع.

مزهوّا بنفسه، قال معاذ بوشارب، منسق الأفالان، يوم 9 فيفري الذي احتشد فيه أنصار "العهدة الخامسة" في القاعة البيضوية، إن الاجتماع القادم سننظمه في ملعب 5 جويلية. لم يكن يعلم هذا السياسي الذي جعله محيط الرئيس في ظرف أيام فتى ذهبيا يغدقون عليه بالمناصب والألقاب، أنه كان يبني قبره السياسي بنفسه. فقد كانت كلماته التمجيدية في حق الرئيس بداية لإطلاق شرارة مسار النهاية. كان ذلك الاجتماع في القاعة البيضوية، الذي حضره الوزراء والسفراء وموظفو الرئاسة وقادة الحملة، "لعنة" على العهدة الخامسة، ومنه انطلق سكّين السخرية الحاد، بعد أن صُدم الجزائريون لهول ما رأوا وهم يشاهدون أناسا من بني جلدتهم تُملأ بهم القاعة فقط من أجل "ساندويتش كاشير". دخلت هذه الأكلة، فجأة، القاموس السياسي وأصبحت لقبا دميما يطلق على محترفي تجارة التزلف للرئيس. اختصرت كلمة "الكاشير" تعاريف طويلة لظاهرة "الشيتة" (التزلف) التي أصبحت مذهبا سياسيا لمن يريد تحقيق مصلحته في أقصر وقت، حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن ومصيره.

البلاد تتحول إلىمسخرة

لم يكن الجو مهيأ أبدا للرئيس ليعلن ترشحه الرسمي في رسالته للجزائريين يوم 10 فيفري، لكنه مع ذلك أقدم على هذه الخطوة غير متحسس هو ومحيطه لما يعتمل في الشارع من إحساس بالإهانة دفين. فالجزائريون لم يتحملوا، صور 1 نوفمبر، عندما رأوا رئيسهم بعد فترة طويلة من الغياب مربوطا على كرسيه المتحرك وقد ضمرت عضلاته ولم يعد يقوى حتى على الاعتدال جالسا. كان المشهد مؤلما بعد أن صارت الجزائر أضحوكة في العالم، تتساءل شعوب أخرى في العالم عما يحدث لشعبها. كانت كل تلك المشاعر الغاضبة تتراكم في النفوس ويتم التعبير عنها بأساليب خاصة لدى الشباب الذين أصبح كثير منهم لا يُفوت أي فرصة للهروب من البلد.

كان الجزائريون في حالة تشبه البركان الخامد الذي يطلق من حين لآخر أبخرة في الهواء ليدل على أنه قد ينفجر في أي لحظة. كانت تنطلق تلك الإشارات كلما بلغ الاستفزاز أوجه، كأن يتحدث أحمد أويحيى فيقول مستهزئا "هل عندكم شكّ في أن الرئيس يترشح؟" أو يتحدث بتعال فيقول: "نعم الرئيس لن يقوم بحملته الانتخابية" أو يقول إن "الشعب سعيد بترشح رئيسه". كما كان يخرج من حين لآخر، عمار غول وعمارة بن يونس، لتمجيد الرئيس والضحك على من يقول إنه غائب عن الساحة ولا يقدر على القيام بواجباته. وحتى رئيس أركان الجيش كان يتحدث بمنطق الاستمرارية محذرا ممن كان يسميهم بـ"أعداء الداخل والخارج". اعتقد كل أبناء النظام أن الأمر يتعلق فقط بمحطة روتينية سيمر منها الرئيس كعادته بأمان، كما كان يقول عبد المجيد سيدي السعيد. واكتفى الرئيس فقط في رسالته بوعود إصلاحات، منها تلك الندوة الوطنية التي قال إنه سيباشرها بعد فوزه لمواكبة التحولات اللازمة.. وظن الجميع في الساحة السياسية أن العهدة الخامسة صارت حقيقة.

انفجار البركان

فجأة ودون سابق إنذار، رُفع الغطاء عن القدر الذي كان يغلي، وصار الجزائريون، بعد أسبوع من تلك الرسالة، يجاهرون برفض جريء للعهدة الخامسة ولاستمرار بوتفليقة. بدأ الأمر بمسيرة شجاعة في ولاية البرج، ثم سرعان ما امتدت الموجة لتصل إلى تجمع حاشد في مدينة خراطة ذات الرمزية التاريخية العالية في بجاية في 16 فيفري. استُقبل هذا التحرك التلقائي الآني للمواطنين على أنه لا حدث لدى أنصار الرئيس، لكنه كان تباشير لأمر ما سيحدث لدى الناقمين على النظام. انطلقت في ذلك الحين دعوات للخروج إلى الشارع في كامل ولايات الوطن يوم 22 فيفري. كان هذا اليوم يشير إلى الجمعة، واختلف الكثيرون في من وجّه تلك الدعوات، وبقي التوجس قائما في النخبة والإعلام والأحزاب.

لكن كل تلك الحسابات لم تكن تدور في خلد الجزائريين البسطاء. انتظر الكل ظهيرة ذلك اليوم، وإذا بأجساد الناس تتهاوى إلى الشوارع والساحات. بدأوا بالمئات ثم أصبحوا آلافا ثم تحولوا إلى الملايين، في العاصمة وفي شرق البلاد وغربها وجنوبها، موحدين على صيحة واحدة "مكاش الخامسة يا بوتفليقة" ومؤكدين على وعي سياسي منقطع النظر، بمحاربتهم القوى التي تحكم من وراء الستار، عبر شعار "هذا الشعب لا يريد بوتفليقة والسعيد". كان وقع الصدمة شديدا، حتى على الإعلام الذي حاول جزء منه التعمية على المشهد، لكن الشعب بدا أنه تجاوز كل الأطر التقليدية في إسماع صوته، ونجح لأول مرة منذ الاستقلال في الخروج بهذا الشكل الموحد على مطلب سياسي واضح بعيدا عن الهوياتية أو المطلبية الاجتماعية الضيقة، صانعا لوحة أبهرت العالم في سلميتها وحضاريتها، حتى أن المتظاهرين كانوا لما يمرون على المستشفيات يصمتون احتراما وعندما ينتهون من مسيراتهم ينظفون الطرقات. كان ذلك المشهد دليلا على جزائر جديد تُصنع، لم يكن منتبها لها المتسلطون الذين حرموا الشعب من حرياته في التظاهر والتجمع وإنشاء الأحزاب والجمعيات طيلة سنوات، بحجة عدم تحضره وافتقاده القدرة على التنظيم.

بداية النهاية

بدأت كرة الثلج تكبر يوما عن يوم، واستمال هذا الحراك كل فواعل المجتمع، من طلبة وعمال وأساتذة وبطالين، بينما كان الرئيس غائبا تماما تدور حوله أكثر الإشاعات جنونا وهو في المستشفى السويسري. لم يستسلم محيط الرئيس بسرعة وقدموا ترشحه يوم 3 مارس دون أن يكون حاضرا، في خرق واضح للقانون الداخلي للمجلس الدستوري، مع تقديم طعم جديد يتضمن تعهد الرئيس بعدم البقاء رئيسا أكثر من سنة وإجراء انتخابات مسبقة. لكن الحراك كان مصمما على الرحيل في جمعاته المتتالية وأصبحت مطالبه أكثر قوة بالدعوة إلى رحيل النظام برمته. في خضم ذلك قرر الرئيس، بعد عودته من جنيف، إلغاء الانتخابات الرئاسية وتمديد حكمه للقيام بالإصلاحات التي قال عنها، وهي خطوة زادت من إلهاب الشارع الذي صار أكثر تصميما.

حينذاك، بدأت سفينة الرئاسة تغرق وبدأ يقفز منها كل الموالين وأكثرهم تزلفا للرئيس وبدأت تنقلب في أعلى هرم السلطة، الموازين، فأعلن رئيس أركان الجيش، بعد تردد، تأييده الضمني للمسيرات التي صار يغدق عليها بأجمل الأوصاف، بعد أن صدمته في اليوم الأول فوصف من كانوا فيها بـ"المغرر بهم"، منهيا ارتباطه القوي بالرئيس ومحيطه. وقد كانت نقطة التحول الكبرى مطالبة رئيس أركان الجيش صراحة بتطبيق المادة 102 من الدستور يوم 26 مارس، ومنذ ذلك الوقت تسارعت الأحداث بشكل رهيب. ورغم أن محيط الرئيس حاول المناورة، عبر مدير المخابرات السابق، توفيق، في إسقاط خيار الجيش، إلا أن الأمر تجاوزهم بعد أن أصبحوا في مرمى الشعب. وانتهت القصة بالخضوع في يوم عاصف، أمس الأول، بعد أن أطلق الجيش بيانا حربيا استجاب بعده الرئيس بوتفليقة بساعة بالاستقالة، مُنهيا 20 سنة من الحكم، تحول فيها من 3 أرباع رئيس، كما وصف نفسه في بدايات حكمه، إلى أكثر الرؤساء تشبثا بالكرسي، في حالة نادرة ستكون مادة دسمة للدراسات السياسية المستقبلية في العالم.

محمد سيدمو

الخبر 04 افريل 2019