(Array|find{786}|oui)

التقرير السنوي لامنستي انترنسينال 2011

يحق لنا أن نذكر عام 2010 باعتباره عام التحول التاريخي الذي استخدم فيه النشطاء والصحفيون تقنيات جديدة لقول الحقيقة للسلطة، وبذلك انطلقوا لضمان المزيد من الاحترام لحقوق الإنسان. وهو أيضاً العام الذي واجهت فيه الحكومات القمعية الاحتمال الواقعي بأن أيامها صارت معدودة.

وتُعد المعلومات مصدراً من مصادر القوة، وتُعتبر هذه اللحظات في نظر الذين يتحدون انحراف الدول، وغيرها من المؤسسات بالسلطة، لحظات مثيرة. فمنذ مولد منظمة العفو الدولية منذ نصف قرن، شاهدنا وشكِّلنا تحولات رئيسية مماثلة في الصراع على السلطة بين الذين يرتكبون الانتهاكات والأفراد الذين يتحلون بالشجاعة والابتكار والذين فضحوا مظالمهم. وباعتبارنا حركة مكرسة لحشد الغضب العالمي دفاعاً عن الأفراد الذين ضاقت بهم السبل، فإننا ملتزمون بمساندة النشطاء الذين يتخيلون عالماً تتحرر المعلومات فيه حقاً، ويستطيعون فيه ممارسة حقهم في التعبير عن المعارضة سلمياً، خارج نطاق سيطرة السلطات.

وعلى مدى 50 عاماً، أخذت منظمة العفو الدولية تستكشف آفاق التقنيات القادرة على تمكين العاجزين والمضارين من إسماع صوتهم للدنيا، فمن الطابعة على البعد وآلات تصوير المستندات، وآلات الفاكس، إلى المذياع والتلفزيون والاتصالات بالتوابع الاصطناعية، والهواتف، والبريد الإلكتروني، والإنترنت، استطعنا أن نحشدها جميعاً لدعم التعبئة الجماعية. لقد كانت هذه أدوات ساعدت الكفاح من أجل حقوق الإنسان، على الرغم من الجهود المتقدمة التي تبذلها الحكومات لفرض القيود على تدفق المعلومات وفرض الرقابة على الاتصالات.
وخلال هذا العام، بدأ "ويكيليكس"، وهو موقع إلكتروني مكرس لنشر الوثائق المستقبلة من مصادر بالغة التنوع، في نشر أولى الوثائق التي يبلغ مجموعها مئات الآلاف، وقيل إن الذي نقلها يُدعى برادلى مانينغ، وهو محلل استخبارات في الجيش الأمريكي، في الثانية والعشرين من عمره، وهو محتجز حالياً تمهيداً لمحاكمته، ويواجه إمكانية الحكم عليه بالسجن أكثر من خمسين سنة إذا أُدين بتهمة التجسس وغيرها من التهم.
وقد خلق موقع "ويكيليكس" مكاناً يسهل الوصول إليه أمام جميع من يفشون الأسرار في شتى أرجاء العالم، وأثبت قوة هذا المنبر بنشر وإعلان الوثائق الحكومية السرية والمُتكتم عليها. وقد سبق لمنظمة العفو الدولية أن أقرت بإسهام موقع "ويكيليكس" في الدعوة لحقوق الإنسان عندما نشر ذلك الموقع معلومات تتعلق بالانتهاكات في كينيا عام 2009.
ولكن الأمر تطلب جهود الصحفيين التقليديين والمحللين السياسيين الذين خاضوا هذه البيانات "الأولية"، وفحصوها ثم حللوها وصولاً إلى الأدلة على الجرائم والانتهاكات التي تتضمنها هذه الوثائق. وانتفع النشطاء السياسيون بقوة هذه الوثائق باستخدام أدوات اتصالات أخرى جديدة أصبحت تُتاح اليوم بسهولة على الهواتف المحمولة وعلى المواقع الإلكترونية للشبكات الاجتماعية في إخراج الناس إلى الشوارع مطالبين بالمساءلة.
ومن الأمثلة القاهرة والفاجعة على قوة العمل الفردي حين تضخمه الأدوات الجديدة للعالم الافتراضي قصة محمد بوعزيزى. ففي ديسمبر/كانون الأول 2010، قام محمد البوعزيزى، وهو بائع جوال يعيش في سيدي بوزيد، في تونس، بإشعال النار في نفسه خارج مبنى البلدية احتجاجاً على مضايقات الشرطة، والإهانة، والصعوبات الاقتصادية، وذلك الإحساس بانعدام الحيلة الذي يشعر به الشباب من أمثاله في تونس.
وانتشر خبر ما قام به مدفوعاً باليأس والتحدي عبر تونس كلها على الهواتف المحمولة والإنترنت، وهو ما حرك المعارضة التي كانت كامنةً في الصدور منذ زمن طويل ضد حكومة البلد القمعية، بتفريعاتها غير المنظورة. وقد تُوفي محمد بوعزيزى متأثرا بجراحه، ولكن غضبته ظلت حيةً في صورة المظاهرات التي عمت الشوارع في شتى أرجاء تونس. وانطلق إلى الشارع النشطاء في تونس، وهم مجموعة تتكون من أعضاء النقابات، وأعضاء المعارضة السياسية، والشباب، وكان بعضهم قد قام بالتنظيم من خلال المواقع الإلكترونية للشبكات الاجتماعية، إظهاراً لتأييدهم لمطلب البوعزيزى بالنظر إلى مظالمه. واشتركت أيادي الخبراء مع شباب المتظاهرين في استخدام الأدوات الجديدة لتحدي الحكومة القمعية.
وحاولت الحكومة التونسية فرض تعتيم مُحكم على أجهزة الإعلام، بل وأغلقت اتصال الأفراد بالإنترنت، ولكن الأنباء انتشرت بفضل التقنيات الجديدة؛ إذ أوضح المتظاهرون أن غضبهم كان منصباً على القمع الوحشي من جانب الحكومة للذين تجاسروا على تحدي موقفها السلطوي، وأيضاً على انعدام الفرص الاقتصادية الذي يرجع في جانب منه إلى الفساد الحكومي.
وفي يناير/كانون الثاني، ولم يكن قد مضى سوى أقل من شهر على الفعل اليائس الذي أقدم عليه محمد البوعزيزى، انهارت حكومة الرئيس زين العابدين بن علي وفر من البلد لاجئاً إلى مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية. واحتفل الشعب التونسي بانتهاء ما يزيد عن 20 عاماً من الحكم غير الخاضع للمساءلة، مما جهز الساحة لانتخاب حكومة جديدة تقوم على المشاركة واحترام حقوق الإنسان.
وترددت أصداء سقوط حكومة بن على في شتى أرجاء المنطقة والعالم. وغدت الحكومات التي تقوم على التعذيب والكبت لقمع المعارضة، وتغتني من خلال الفساد والاستغلال الاقتصادي، تتلفت خلفها في فزع. كما ساد التوتر في دوائر النخبة المحلية والحكومات الأجنبية التي كانت تساند هذه النظم غير المشروعة وتتشدق في تعالٍ بالديموقراطية وحقوق الإنسان.
وسرعان ما أدت الانتفاضة التونسية إلى إحداث زلازل في البلدان أخرى. فانطلق الناس إلى الشوارع في الأردن والجزائر واليمن ومصر.
وكانت الأدوات في عام 2010 جديدة، ولكن المظالم لم تتغير، ألا وهي السعي إلى حياة تتسم بالكرامة، ويتمتع فيها الإنسان بشتى ألوان الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبدأ النشطاء في جميع أرجاء العالم ممن كابدوا طويلاً خطر وحقيقة السجن والتعذيب والوحشية بسبب آرائهم ومعتقداتهم أو هويتهم السياسية، في تخيل عالم زاخر بالإمكانات التي تتضمن التحرر من الخوف والمشاركة السياسية الحقة. وأما ما بينته الأحداث الأخيرة بوضوح وجلاء فهو أن نقص الفرص الاقتصادية أمام الكثيرين في المنطقة أحدثت أصداء عميقة لدى من كانوا يؤيدون النشطاء في تونس.
وهذا الإحباط الذي يحسه من يعيشون في ظل حكومات قمعية لا يبتعد عن السطح مطلقاً. ففي مصر، على سبيل المثال، تُوفي خالد سعيد بعد أن اعتدى عليه اثنان من رجال الشرطة في مقهى للإنترنت في الإسكندرية في يونيو/حزيران 2010، وأدت وفاته إلى غضبة شعبية عارمة، وهو ما يبدو الآن، إن استرجعنا الأحداث، نذيراً مبكراً للمظاهرات الهائلة في 2011. ووُجهت إلى الشرطيين تهمة القبض عليه وتعذيبه دون وجه حق، لا بالمسؤولية المباشرة عن وفاته. وفي إيران، فرض المسؤولون الحكوميون قيوداً على الوصول إلى المصادر الخارجية للمعلومات، مثل الإنترنت، في الوقت الذي استمر فيه الاستياء في أعقاب انتخابات عام 2009 التي ثار الخلاف حول نتائجها، ولم تندمل بعد الجروح الناجمة عن الانقضاض الوحشي على المتظاهرين.

وفي الصين، حاولت الحكومة دفن قصة شاب أوقفه رجال الشرطة بعد أن قتل امرأة وجرح امرأة أخرى أثناء قيادته السيارة مخموراً، فصرفهم الشاب بذكر قرابته لأحد كبار المسؤولين في الشرطة. وغدت صيحة "أنا ابن لي غانغ" رمزاً لانعدام المساءلة، ونُشرت القصة الكامنة وراء هذه الصيحة، ثم أُعيد نشرها على الإنترنت في شتى أنحاء الصين حتى والسلطات تناضل لاستعادة السيطرة على الموقف.
وأما السياسيون الذي يقولون بأولوية الحقوق المدنية والسياسية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أو بالعكس، فإن الوضوح الذي حدد به النشطاء علاقة إحباطهم بنقص الفرص السياسية والاقتصادية يبين أن هذا التقسيم زائف لأنه يتجاهل خبرات الملايين أو المليارات من الناس الذي يعيشون من دون هذه وتلك في شتى أرجاء العالم.
ومنظمة العفو الدولية التي بدأت باعتبارها حركةً مكرسة لحقوق سجناء الرأي، قد أدركت منذ وقت طويل أن الإشارة إلى الانتهاكات الكامنة التي تحفز النشطاء على الكتابة والخروج إلى الشارع لا تقل أهميةً عن ضمان وضع حد لاحتجاز النشطاء وإيذائهم. وقد تكون مواقع الشبكات الاجتماعية جديدة، ولكنها مهمة لأنها أداة قوية تستطيع تيسير الألفة والتكاتف بين النقاد الساخطين الذين يعيشون في ظل حكومات ظالمة لا تختلف في طابعها على امتداد العالم كله.

تسريب الوثائق والكشف عن الخبايا
في يوليو/تموز، بدأ موقع "ويكيليكس" وعدة صحف كبرى في نشر ما يقرب من 100 ألف وثيقة متعلقة بالحرب في أفغانستان. وتفجر الخلاف حول مضمونها ومشروعيتها وعواقبه؛ إذ كانت الوثائق تقدم تأكيداً قيِّماً لانتهاكات حقوق الإنسان التي وثَّقها نشطاء وصحفيو حقوق الإنسان، وهي الانتهاكات التي كانت الحكومات الأفغانية والأمريكية وبلدان حلف شمال الأطلسي تنكر وقوعها. ولكن منظمات حقوق الإنسان أبدت انزعاجها عندما أعلنت حركة "طالبان" أنها تقوم أيضاً بفحص الوثائق المذكورة وسوف تعاقب من تعاون من الأفغانيين مع الحكومة الأفغانية أو مسانديها الدوليين. وهكذا فإن التقنيات الجديدة، مثلها مثل جميع الأدوات، تتضمن أخطاراً إلى جانب الفوائد، ومن ثم اتخذ موقع "ويكيليكس" الخطوات اللازمة التي تضمن أن الوثائق المنشورة في المستقبل سوف تحقق المبدأ القديم، مبدأ "عدم إحداث الضرر"، وهو من الأسس الصلبة التي ارتكز عليها عمل منظمة العفو الدولية في السنوات الخمسين الماضية.
ورداً على ذلك، لجأت الحكومات المتورطة في الانتهاكات إلى الذريعة القديمة التي تزعم أن الوثائق المتسربة التي توضح انتهاكات الحكومات وجوانب إخفاقها تمثل تهديداً للأمن القومي ومن ثم فهي غير مشروعة. ويمكن القول بصفة عامة إن هذه الحكومات تجاهلت ببساطة الكشف عن الأدلة على جرائم في نظر القانون الدولي وعلى تقاعسها عن التحقيق في هذه الجرائم ومحاكمة مرتكبيها.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، نشر موقع "ويكيليكس" ما يقرب من 400 ألف وثيقة تتعلق بالحرب في العراق. ومن جديد أشارت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى إلى أن الحكومات المتورطة، حتى وهي تحتمي بصيحة "الأمن القومي"، قد تقاعست عن تحمل مسؤوليتها فلم تقم بالتحقيق مع مرتكبي جرائم الحرب وغيرها من الجرائم في نظر القانون الدولي ومحاكمتهم. وأكدت الوثائق أيضاً أن هذه الحكومات التي ترفض التقارير التي أعدتها منظمة العفو الدولية وغيرها من منظمات حقوق الإنسان عن الانتهاكات المذكورة، كانت تملك من الوثائق ما يؤكد بوضوح دقة هذه التقارير.
ولكن المعلومات "المسربة" تتضاءل أمام الفصل النهائي في عام 2010 عندما بدأ موقع "ويكيليكس" مع خمس صحف كبرى في وقت واحد في نشر الدفعة الأولى من البرقيات "الخاصة"، وإن كانت غير "سرية للغاية"، وعددها 220 برقية دبلوماسية من بين 251287 برقية أرسلتها 274 سفارة أمريكية في شتى أنحاء العالم من 28 ديسمبر/ كانون الأول 1966 إلى 28 فبراير/شباط 2010. وكان من شأن هذه المعلومات التي أُتيحت مؤخراً، وقام بتحليلها الصحفيون المخضرمون ومدونو الانترنت المتحمسون، أن تعزز الحركات القائمة، وأن تلهم مزيداً من الحركات الجديدة.

زلازل حول العالم
وتختلف وجهات النظر إلى العمل الذي قام به موقع "ويكيليكس"؛ إذ يصفه بعض المعلقين بأنها تعمل في "فراغ أخلاقي" ويراه البعض معادلاً حديثاً لنشر "أوراق البنتاغون" (وزارة الدفاع الأمريكية) ولكن الأمر الواضح يتمثل في التأثير الذي أحدثته الوثائق المسربة.
وإذا كان من الصحيح أن "ثورة الياسمين" في تونس ما كانت لتندلع لولا الكفاح الطويل الذي خاضه المدافعون الشجعان عن حقوق الإنسان في العقدين الماضيين، فربما كانت المساندة للنشطاء خارج البلد قد تعززت عندما فحص الناس وثائق "ويكيليكس" الخاصة بتونس وفهموا جذور الغضب. وقد أوضحت بعض الوثائق بصفة خاصة أن البلدان في شتى أرجاء العالم كانت على وعي بالقمع السياسي وعدم توافر الفرص الاقتصادية ولكنها لم تكن، في الغالب الأعم، تفعل ما ينبغي للحث على التغيير. وقد كشفت إحدى البرقيات المُسربة عن إقرار المبعوث الكندي آنذاك، والسفير الأمريكي والسفير البريطاني بأن قوات الأمن التونسية تقوم بتعذيب المعتقلين، وأن التأكيدات الدبلوماسية بأن الحكومة لن تعذب المعتقلين الذين يُعادون إلى تونس "لها قيمتها" ولكن لا يُعول عليها، وأن "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" لا تستطيع زيارة المعتقلات التي تديرها وزارة الداخلية.
وفي برقية مُسربة أخرى يدلي السفير الأمريكي بتفاصيل تبين أن الاقتصاد التونسي مهلهل بسبب تفشي الفساد، الذي يتراوح ما بين ابتزاز الشرطة للشعب، وبين الذراع الطويلة "للأسرة" أي أسرة بن علي التي تضم أقرباءه وأنسابه البعيدين، فهي أسرة مديدة استغلت سلطانها لتكديس الثروة.

ويعيدنا ذلك إلى محمد البوعزيزى والكثير من التونسيين الآخرين الذين كانوا يشعرون، فيما يبدو بأنه لا أمل أمامهم على الإطلاق في مواجهة التعذيب والحرمان الاقتصادي، والفساد الحكومي، ووحشية الشرطة، والقمع بلا هوادة للمعارضة السياسية ولأي فرد آخر يعبر عن معارضته. فلم تكن أمام البوعزيزي أية سبل سياسية للمطالبة بفرص اقتصادية وعندما حاول أن يخلق فرصة له ببيع الفاكهة والخضراوات على عربة في الشارع، صادرت الشرطة بضاعته. وعندما ذهب إلى السلطات السياسية ليشكو إيذاء الشرطة له امتنعت تلك السلطات عن قبول شكواه أو التحقيق فيها.
ولم تكن شكاوى محمد البوعزيزى فريدةً بحال من الأحوال. ولكن إقدامه على إحراق نفسه تزامن تقريباً مع نشر "ويكيليكس" للوثائق التي تبين أن الحكومات الغربية التي تحالفت مع حكومة بن على كانت تعي هذه القضايا جميعاً، ولكنها كانت فيما يبدو عازفةً عن ممارسة الضغط الخارجي على الحكومة لحملها على احترام حقوق الإنسان. وكان اقتران هذين الحادثين، فيما يبدو، العامل الذي حقق التأييد الواسع النطاق للمحتجين في تونس، وكان الناس في البلدان المجاورة يساندونهم كل المساندة، فبعضهم كان يواجه نفس العقبات التي تحول دون تمتعهم بحقوقهم المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

ردود أفعال لها دلالتها
ومن المفيد لنا أن نتأمل ردود أفعال الحكومات الغربية في مواجهة الأوضاع الناشئة في تونس ومصر، إذ قطعت الولايات المتحدة علاقتها التي امتدت زمناً طويلاً مع الرئيس التونسي بن علي، واقترح وزير الشؤون الخارجية الفرنسي أولاً مساعدة حكومة بن علي في التصدي للاحتجاج الشعبي، ولكن بعد تفجر الغضب من هذا الموقف في فرنسا، وبعد أن فر زين العابدين بن علي من تونس، أفصحت فرنسا أخيراً عن مساندتها للمحتجين. وعندما واجهت حكومة الولايات المتحدة، وكثير من الحكومات الأوروبية احتجاجات مماثلة في مصر، بدا أنها قد أُخذت على حين غِرَّة، ومن ثم غدت عازفةً عن تأييد المطلب الأولي للمحتجين بأن يتنحى الرئيس مبارك عن السلطة.
وكانت الولايات المتحدة بصفة خاصة تستثمر استقرار حكومة مبارك استثماراً شديداً؛ على الرغم من الأدلة الكثيرة على وحشيتها في الأعوام الثلاثين الأخيرة. والواقع أنه على امتداد العالم كله، فإن الكثير من الحكومات التي تعلن إعلاء قيمة حقوق الإنسان والديموقراطية كانت تساند بصراحة بعض الزعماء السياسيين، مثل محمد حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس، اللذين كانت تعرف عنهما الفساد والقمع واللامبالاة بحقوق مواطنيها. والواقع أن أولى الحالات العجيبة للاعتقال والنقل السري للأشخاص (بقصد تعذيبهم في الخارج) وقعت في ظل إدارة الرئيس كلينتون التي كانت ترسل المعتقلين إلى مصر، المكان الذي اشتهر بالاستخدام المنتظم للتعذيب. والأدلة القائمة على هذا النفاق، والتي أكدتها البرقيات الدبلوماسية الكثيرة التي نشرها موقع "ويكيليكس"، تفضح هذه الحكومات وتشكك في التزاماتها بحقوق الإنسان. وفي نهاية المطاف، فقد كان من شأن بسالة المتظاهرين السلميين الذين خاطروا بأرواحهم في شوارع القاهرة وغيرها من المدن، أن تثبت الكثير من الحقائق للرئيس مبارك وحلفائه.
وفي أعقاب تسريب البرقيات الدبلوماسية أسرعت الحكومات لتحديد نوع الجرائم التي ربما تكون قد ارتُكبت من جانب "ويكيليكس" (وبرادلي مانينغ). وفي رد الفعل المذكور ما يثير القلق، فإن حكومة الولايات المتحدة التي هاجمت "ويكيليكس" بشدة وضراوة، كانت لها نظرة مختلفة حين كانت تدعم أوجه التقدم الجديدة في نشر المعلومات عن البلدان الأخرى. ففي يناير/كانون الثاني 2010، ألقت وزيرة الخارجية الأمريكية خطاباً يهدف إلى تشجيع الحكومات في شتى أرجاء العالم على ضمان انتفاع السكان بالإنترنت، وشبهت الرقابة على الإنترنت "بحائط برلين"، وقالت هيلارى كلينتون "لم تتمتع المعلومات من قبل بالحرية التي تتمتع بها الآن. وحتى في البلدان السلطوية، نجد أن شبكات المعلومات تساعد الناس على اكتشاف حقائق جديدة وزيادة مساءلة الحكومات."
وواصلت الوزيرة حديثها قائلة إن الرئيس باراك أوباما، أثناء زيارته للصين في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 "دافع عن حق الناس في الوصول بحرية إلى المعلومات، وقال إنه كلما زادت حرية تدفق المعلومات، ازدادت المجتمعات قوة. ووصف كيف أن الوصول إلى المعلومات يساعد المواطنين على مساءلة حكوماتهم، ويولد أفكاراً جديدة، ويشجع الابتكار."
ولكن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي تريد الالتزام بحسن السلوك من خلال الإنترنت، أو تنفرد برغبتها في استخدام التقنيات الإلكترونية في انتهاك الحق في الخصوصية. فشبكة الإنترنت تزيد من فضح رغبة الحكومات في السيطرة على الحصول على المعلومات في غمار سعيها لفرض الرقابة على الذين يستخدمون الإنترنت عندما يرى أصحاب السلطة أن المضمون يمثل تهديداً لهم، إذ يضيفون القرصنة والرقابة إلى ترسانة أسلحتهم الخاصة.
ولكن من الواضح أن الحكومات لا تمسك بعجلة القيادة بالضرورة، مهما اشتدت رغبتها في ذلك. ففي الصين لعب البرنامج الإلكتروني الخاص بمنع اختراق شبكة الإنترنت، والمسمى "Great Firewall"، دوراً مهماً وضاراً في السعي لقمع حرية المناقشة على الإنترنت. وكان الذين حاولوا تجاوز القواعد الموضوعة عرضةً للمضايقات أو للحبس. ففي يوليو/تموز 2010، على سبيل المثال، صدر حكم بالسجن لمدة 15 سنة على خيرت نياز، وهو صحفي ومحرر في الإنترنت من طائفة "الأوغور" بتهمة "تعريض أمن الدولة للخطر". واستندت المحكمة في أدلتها إلى المقابلات الشخصية التي أجراها مع أجهزة الإعلام الأجنبية وكذلك إلى الترجمة التي قام بها على الإنترنت لدعوة إحدى منظمات "الأوغور" في الخارج إلى القيام بمظاهرات احتجاج على معالجة الحكومة لحادثة قُتل فيها اثنان على الأقل من طائفة "الأوغور"، وذلك عندما قام عمال صينيون من طائفة "هان" بمهاجمة عمال من طائفة "الأوغور" في شاووغوان، بمقاطعة غوانغدونغ، في جنوب الصين. ولكن السلطات الصينية كانت تجد نفسها، مراراً وتكراراً، ورغم استخدام أشد التقنيات تقدماً، في موقف مزعزع أو تكتشف أن مستخدمي الإنترنت قد تغلبوا عليها في الدهاء، وغدوا حصاناً برياً من المحال ترويضه، كما وصفهم بذلك أحد المدونين الكوبين في الإنترنت ويدعى يواني سانشيز.

وهناك نموذج آخر يتمثل في ليو جياوبو، وهو الباحث الذي شارك في تأليف وثيقة المعارضة التي تسمى "ميثاق 08". فقد استلهم نشاط مفكري أوروبا الشرقية المكافحين ضد النزعة التسلطية الشيوعية في السبعينيات والثمانينيات، وهم الذين استفادوا أيضاً من التقنيات الجديدة آنذاك، مثل آلات تصوير المستندات وأجهزة الفاكس، في نشر الأفكار وتحدي الحكومات الظالمة وإسقاطها آخر الأمر.
ولم يكن ليو جياوبو معروفاً لمعظم أبناء الصين العاديين حتى بعد أن حُكم عليه بالسجن 11 عاماً في يوم عيد الميلاد عام 2009. ومع ذلك فعندما فاز بجائزة نوبل للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 2010 راح نشطاء الإنترنت يتسابقون في السعي للاعتراف بدوره.
وكانت السلطات الصينية حريصة على إغلاق باب المناقشة، وعندما اختل توازنها بسبب ما فُوجئت به من اتساع نطاق المساندة لذلك الشخص، الذي وصفته رسمياً بأنه "خائن"، أعاقت البحث على الإنترنت باستخدام عبارة "الكرسي الخالي"، وهو مصطلح كان كثير من الصينيين قد بدأوا يستخدمونه في الإشارة إلى أسلوب تكريم ليو جياوبو في حفل منح الجائزة في أوسلو.
وحتى مقدم "ويكيليكس"، كانت الحكومات تعتقد، فيما يبدو، أنها تسيطر على الموقف. ولكن عندما تراجعت الشركات، التي كان موقع "ويكيليكس" يعتمد عليها في عمله، عن مساندتها له، ولم يتضح إلى الآن إذا ما كان هذا نتيجة للضغط المباشر من الحكومة، تعرضت الشركات والحكومات التي كانت تدين "ويكيليكس" للهجوم من قراصنة الكمبيوتر في شتى أرجاء العالم.
ويبين تكثيف القراصنة لجهودهم ومواصلة نشر الوثائق على الرغم من تهديدات شتى الحكومات وغضبها أن موقع "ويكيليكس" قد غير طبيعة "اللعبة" فيما يتعلق بمن يسيطر على المعلومات، كما كشف أيضاً عن أن بعض القراصنة يتبنون موقف "الهجوم على الجميع بلا هوادة"، وهو ما يهدد خصوصية الأفراد وأمنهم.

تحقيق الموازنة الصحيحة: كلمة تحذير}

على نحو ما رأينا آنفاً، فإن الرغبة في نشر المعلومات من الممكن أن تتسبب في مشاكل خاصة بها إن لم يتحقق التوازن بينها وبين الحقوق الفردية. ففي أغسطس/آب، قامت سيدتان برفع دعوى جنائية ضد جوليان أسانج، مؤسس موقع "ويكيليكس"، بموجب قانون الجرائم الجنسية السويدي، ونشر قراصنة الإنترنت أسماء وهوية السيدتين، وهما اللتان تعرضتا لتشويه سمعتهما باعتبارهما من عملاء حكومتي الولايات المتحدة والسويد. وهذا يبين أن النساء ما زلن يُستخدمن في العالم الافتراضي الجديد قطعاً للشطرنج، أو ما هو أسوأ، ويمكن التضحية بهن باعتبار ذلك من الأضرار الجانبية المقبولة. وإن شئنا الوضوح قلنا إن السيدتين جديرتان بالتحقيق الكامل في دعواهما فإذا توافرت الأدلة الكافية لابد من محاكمة الذي زُعم أنه أساء إليهما. وينبغي، في الوقت نفسه، أن يتمتع جوليان أسانج بمبدأ افتراض براءته وأن تُوفر له الإجراءات القضائية الواجبة وأن يُحاكم محاكمةً عادلة.
وقانون حقوق الإنسان واضح في هذه القضية، إذ ينص على أن تتميز الحكومات بالشفافية، ولا يجوز لها الانتقاص من حرية التعبير (ومن الحق في تلقي المعلومات ونقلها) إلا من أجل تعزيز احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو حماية الأمن القومي، أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق العامة. ومن المحال تبرير مزاعم الحكومات بأن الأمن القومي يمنحها الحرية المطلقة في فرض القيود على المعلومات، خصوصاً عندما يتضح أن هذه القيود تشمل التستر على انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني. ولكن النفاق والخداع من جانب حكومة ما لا يبرر كذلك دخول القراصنة على الموقع الإلكتروني للنيابة العامة وانتهاك خصوصية النساء اللاتي يتقدمن بالشكاوى.

مستقبل رقمي لحقوق الإنسان

لا تتميز شبكة الإنترنت وغيرها من تقنيات الاتصال بسمات سحرية أو حتمية، والتقنيات في حد ذاتها لا تحترم أو تقوِّض حقوق الإنسان، فإنها، وسوف تظل، أداةً يستخدمها من يريدون تحدي مظاهر الظلم في شتى أرجاء العالم ومن يريدون التحكم في الوصول إلى المعلومات وإسكات الأصوات المعارضة. ويمكن القول بأن الإذاعة على موجات FM والهواتف المحمولة قد فعلت أكثر مما فعلته الأساليب التقليدية الأخرى في سبيل تعزيز حقوق الإنسان في إفريقيا وحمايتها. وقد تمكن الموقع الإلكتروني (ushahidi.com) في كينيا من ابتكار وسائل للاتصال الجماهيري فتحت مجموعة جديدة كاملة من إمكانيات منع نشوب الصراعات.
وسوف تحقق التقنيات أغراض الذين يسيطرون عليها، سواء كان الغرض تعزيز الحقوق أو تقويضها. ويجب أن نتذكر أننا في عالم يتسم بعدم تماثل القوى، وقدرة الحكومات وغيرها من المؤسسات على الانحراف باستخدام التقنيات وعلى استغلالها سوف تتفوق دائماً على طاقات القاعدة الشعبية من النشطاء، ودعاة حقوق الإنسان المحاصرين، ومن يُقدمون دون خوف على إفشاء الأسرار، والأفراد الذين تدفعهم دواعي العدالة إلى السعي للحصول على المعلومات أو لوصف وتوثيق حالة من حالات الظلم من خلال هذه التقنيات.
وقد اتضح من خلال الجدل الذي أحاط بموقع "ويكيليكس" من حيث نشر الوثائق دون الحرص، فيما يبدو، على أمن الذين كشفت الوثائق أسرارهم، وكذلك في الخلاف الذي يحيط بقضية ارتكاب جوليان أسانج لجرائم جنسية، أن الوضوح الأخلاقي عسير المنال. فهذه القضية لا تتيح الوضوح الأخلاقي الذي يرتبط في أذهاننا، على الأقل عند استرجاع الأحداث الآن، بنشر "أوراق البنتاغون" (وزارة الدفاع الأمريكية). ومن المهم للذين يجدون أن موقع "ويكيليكس" لا أخلاقي أن يذكروا أنه حين يتقاعس الذين ينبغي لهم قول الحق، يصبح من حق الذين يعيشون يومياً في ظل الانحراف بالسلطة أن يحتفوا بموقع "ويكيليكس"، وهو ما يصبح احتفاءً مفهوماً، إذ إن أملهم الأخير في المساءلة معقود بفضح ذلك الانحراف، مهما كان الفضح مشوباً بالمثالب، مسبباً للحرج، أو مؤدياً إلى نتائج عكسية فيما يبدو.

ومع ذلك فإن هذه أوقات مدهشة بالنسبة لمنظمة العفو الدولية ونشطاء حقوق الإنسان الآخرين الذين يرون الإمكانات التي تقدمها التقنيات للكشف عن الحقيقة وعقد المناظرات التي قد تنجح في تفادي الرقابة والربط بيننا عبر الحدود. إننا نتخيل الوعد بأن نعيش في عالم يتمتع بالصراحة الحقة، حيث يستطيع الجميع الوصول إلى المعلومات بأسلوب مفيد، وحيث يستطيع الجميع أن يشاركوا مشاركةً كاملةً في القرارات التي تؤثر في حياتهم، وحيث لا تُقبل حالة ظلم واحدة.
وفي عام 2011 تحتفل منظمة العفو الدولية بعيدها السنوي الخمسين، وقد وصف أحد النقاد المعاصرين هذه الحركة بأنها "إحدى حالات الجنون الكبرى في زماننا" ولكنها قد أشعلتها دعوة بسيطة من محام بريطاني يُدعى بيتر بيننسون، إذ طلب من المجتمع أن يتذكر "السجين المنسي". وكان حماسه مستلهماً من حادثة نمت إلى علمه، ألا وهي الزج بشابين برتغاليين في السجن بتهمة رفع كأسيهما ليشربا نخب الحرية.
ولحسن حظ الآلاف من السجناء منذ ذلك الوقت، لم يكتف ذلك "الجنون" بالانتصار بل كُتب له أن يستمر، ولا نزال مع حلفائنا مصممين على تعزيز الحق في المعلومات وحرية التعبير، فقد نجحنا معاً في النضال من أجل الإفراج عن الآلاف من سجناء الرأي، وقد أصبح بعضهم مثل إلين سيرليف جونسون، رؤساء للدولة اليوم. وساعدنا معاً على تحقيق إطلاق سراح أونغ سان سوكي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، فأثبتنا مرة أخرى كيف تنجح المثابرة الدائبة في تحقيق التغيير الإيجابي. ونجحنا معاً في إنقاذ ما لا يُحصى من الأرواح، أقربها زمناً نشيطان تحديا قوات الأمن التابعة لعملية تعدين، وكانت القوات توشك على تخطيط مواجهة ترمي إلى التخلص من النشطاء الذين كانوا على استعداد للمخاطرة بأرواحهم في سبيل قول الحقيقة للسلطة.
لقد اختلفت أحوال العالم اختلافاً شاسعاً في غضون هذه السنوات الخمسين ، ولكن دافع الأفراد إلى التكاتف للكفاح ضد الظلم وحماية حقوق البشر أينما كانوا لم يتغير.
ويُعتبر هذا العيد الخمسيني اللحظة المناسبة لنتصور مقدار ما يستطيع الأفراد تحقيقه بتعاونهم، فإذا استطاع كل عضو من أعضاء منظمة العفو الدولية، الذين يربو عددهم على ثلاثة ملايين، إقناع شخص واحد آخر بالانضمام إلى عملنا في سبيل العدالة فسوف نضاعف من تأثيرنا، وعلى نحو ما رأينا في الشرق الأوسط فإن التحركات الجماعية للأفراد الذين يوحد بينهم السعي إلى تحقيق الإنصاف الأساسي يمكن أن تقوى على إسقاط الحكومات القمعية.
ولا يزال الأفراد الذين يُقدرون قيمة الحقوق والحريات في حاجة ماسة إلى العمل المتضافر داخل حدود البلدان وعبر هذه الحدود ما دامت الحكومة تواصل اضطهادها للذين يتصدون للانحراف بالسلطة. وبينما يطالب الأفراد الشجعان ذوو العزيمة الصلبة بحقوقهم وحرياتهم، تسعى الحكومات والجماعات المسلحة والشركات والمؤسسات الدولية إلى تجنب فحص أفعالها والمساءلة عنها.

إننا نستمد الإلهام من إطلاق سراح داو أونغ سان سوكي، ومن شجاعة ليو جياوبو، وصلابة الآلاف من سجناء الرأي، وشجاعة من لا يُحصى عددهم من المدافعين عن حقوق الإنسان، ومثابرة مئات الآلاف من التونسيين العاديين في مواجهة صعاب جمة، حين واجهوا قصة محمد البوعزيزى الفاجعة فصمموا على إحياء ما تركه لهم بعد موته بتنظيم صفوفهم ضد الانحراف بالسلطة الذي أدى إلى مصرعه. إننا ملتزمون في منظمة العفو الدولية بمضاعفة جهودنا لتدعيم الحركة العالمية لحقوق الإنسان، ملتزمون بالكفاح حتى نتأكد أنه لن يشعر فرد آخر بمثل هذه العزلة في يأسه إلى الحد الذي يسد أمام عينيه كل السبل.

اطلع على التقرير الكلي:

Documents joints

Fichiers (PDF)