(Array|find{875}|oui)

النجدة!! من يعرف معنى كلمة "سياسة"؟ بقلم منصف المرزوقي

الزَبَد
تيارات عمق المحيط
المدرستان

سلْ من حولك عن تعريف السياسة وستُفاجأ بتباين الأجوبة. إنها نفس الظاهرة بخصوص
مصطلحات مثل الصحة والوطن والدين.. كلها كلمات نتصورها من البديهيات، وحين نخوض في تدقيق معانيها، نجدها تعني أشياء مختلفة لكل واحد.

لنترك لأساتذة العلوم السياسية مهمة الاتفاق -إن همُ اتفقوا- على تعريف، لكن الأمر لن يكون إلا مقارعة تصورات بأخرى. المشكلة أيضا أن المنظرين لم يجربوا يوما السياسة الفعلية، وبالتالي هم كالمختصين في سيكولوجيا الحب يصفون الظاهرة من الخارج وبكثير من التدقيق، لكنهم لم يجربوا يوما لهب الأحاسيس والمشاعر.

في المقابل تجد سياسيين لهم تجربة مباشرة، لكن لا وقت لديهم ولا قدرة على التنظير. النتيجة بقاء المفهوم في منطقة ضبابية، لأن من يتكلمون لا يعرفون كثيرا، ومن يعرفون لا يتكلمون إلا نادرا.

هذا النص محاولة سياسي للتنظير، علما بأن صاحبه على أشد الوعي أنه لا يفعل سوى إضافة تصوّر إلى تصورات، وكل أمله أن يغذي تصورُه هذا فكرَ القارئ ليبلور هو نفسُه مفهومه للسياسة.

لننطلق من المظاهر إلى ما وراءها، فنغوص في طبقات مصطلح أعقد مما نعتقد.

"
الغريب وجود من يقبل بعمل يجلب -مقابل متعة عابرة ونادرة- كمّا لامتناهيا من صداع مزمن ونقد متواصل ومتحامل، وصراع شرس قد يتوّج بالسجن والنفي أو حتى القتل
"

الزَبَد

أستيقِظُ كل صباح مستعيذا بالله من المشاكل التي لن يبخل بها عليّ هذا اليوم ككل الأيام. نادرا ما أنتظر طويلا، حيث يبدأ الهاتف بالرنين وأبدأ أخط على كناشي قائمة لا أدري هل يجب أن أضحك منها أو أبكي: خصومات لا تنتهي داخل الحزب ومع الأحزاب الأخرى، والقاعدة سوء التفاهم والظن والمؤامرات والتحالفات التي لا تثبُت والخيانات.

كل هذا والصراخ متصاعد من كل حدب وصوب حول من الذي يدافع عن مبادئ ومن الذي يدافع عن مصالح، وكلهم في الواقع يدافعون عن مصالح مبادئهم ومبادئ مصالحهم.

كل هذا لا شيء بالنسبة لما يعانيه الحكّام.. المساكين، أشفق عليهم ولو كانوا خصوما! الغريب وجود من يقبل بعمل يجلب -مقابل متعة عابرة ونادرة- كمّا لامتناهيا من صداع مزمن ونقد متواصل ومتحامل وصراع شرس قد يتوّج بالسجن والنفي أو حتى القتل.

والآن ما طبيعة المشاكل التي يُبتلى بها المعارضون والحكام على حدٍّ سواء؟

- هل هي التي تمسّ الشأن العام؟ خطأ، فالخط الفاصل بين الشأن الخاص والعام نظري بحت. كم من مستقلّ-مستقيل ظن نفسه بمنأى عن السياسة فلاحقته بلعنتها في أدق تفاصيل حياته؟ وكم من دكتاتور خلط بين وطن ومزرعته الخاصة وبين نفسه والوطن؟

- هل هي المشاكل الكبرى؟ نعم، فالسياسة ميدان الحرب والسلام والاقتصاد.. إلخ. لكن المشاكل التي تعرفها الثكنات والمستشفيات والشركات وحتى العائلات لا تختلف في جوهرها عن المشاكل التي تعصف بمصائر الشعوب والدول.

- ما الخاصية الأساسية إذن؟ إنها طبيعتها السرطانية، فالمشاكل تتوالد دون توقف. هكذا يفيق السياسي كل صباح لقائمة مصائب تفاجئه بظهورها غير المتوقع ولا يؤدي حلها إلى اختفائها وإنما إلى تبلورها في شكل جديد.

السؤال هو: ما وراء كلّ هذا الصراع اللامتناهي؟

تيارات عمق المحيط

محرّك مشاكل العلوم نقص المعطيات، ومن ثم ظهور البحث العلمي. مشاكل الاقتصاد في انعدام التوازن بين العرض والطلب، ومن ثم قضايا الإنتاج والتضخم والعمل النقابي والأحزاب التي تنادي بالعدالة الاجتماعية.

ما الذي يحرك المشاكل السياسية؟ تأمل بعضها، سواء أكانت على مستوى الأمم والدول والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، أو على مستوى الشركات والعائلات والسجون والثكنات، وستكتشف دوما أن محركها صراع محموم حول ثالوث أزلي.

سبق أن اقترحتُ تعريفا للثورة يقضي بأنها هي اللحظة التاريخية التي تتوّج تراكمات طويلة من أحداث، يشهد فيها المجتمع تحولا مفاجئا وغالب الوقت عنيفا، يعيد توزيع السلطة والثروة والاعتبار داخله.

يحيلنا هذا التعريف إلى فترة ما سبق الثورة وما يعقبها، وهي دوما مرحلة تتسم بتوزيعٍ ما للثالوث وفق توازن هشّ بين الأشخاص والمجموعات، وهي تتصارع داخل حدود عنف مسيطَر عليه نسبيا (تفضحه نسبة جرائم الحق العام وما يسمى الجرائم السياسية). يتواصل ذلك إلى أن تصبح التناقضات غير قابلة للفض، فتحصل الحرب أو الثورة التي تعيد خلط الأوراق وتوزيعها من جديد، خالقة توازنا جديدا يدوم ما يدوم إلى أن تحصل الثورة مجددا، وهكذا إلى يوم يُبعثون.

نذكّر أن السلطة -سواء مورست على مرؤوس واحد أو على الملايين- هي القدرة على فرض الإرادة بالقوة أو بالإقناع، لتحقيق مصالح الماسك بأدوات الإرغام أو الإقناع. أما الثروة فهي حالة التمتع بموارد نادرة ودون تقتير على الذات والأقارب، في وضع يعرف فيه الآخرون كل أشكال الحرمان. بخصوص الاعتبار هو حالة التمتع بالاحترام والتكريم من قبل عدد من الناس نتيجة المسك بالسلطة والثروة أو نتيجة الصراع ضدهما من موقف أخلاقي كالذي يتخذه الناسك والنبي والثوري.

بديهي أنه يمكن للمرء أن يفوز بالاعتبار دون أدنى سلطة أو ثروة (غاندي).. أو بالسلطة والثروة دون أدنى اعتبار (الأغبياء الخطرون الذين يحكموننا).. أو أن يكون صاحب سلطة واعتبار دون ثروة (عمر بن الخطاب).

الأدهى والأمرّ ألا يملك أدنى سلطة أو اعتبار أو ثروة (أغلبية البشر)، وفي هذه الحالة يبقى الشيء الوحيد المضمون هو الشقاء والموت باكرا، في حين أن سهولة العيش وكثيرا من المتعة متوفرة لمن أسعفه الحظّ بالثالوث كاملا أو على الأقل بجزء منه. لا غرابة في شراسة التنافس بين الأشخاص والمجموعات للفوز بأثمن ما توفره الحياة.

"
السعي وراء الثالوث (السلطة والثروة والاعتبار) أو جزء منه، ليس قدر السياسي وحده، وإنما هو هدف لكل إنسان، والفرق في مستوى البذل فقط
"

لننتبه أن السعي وراء هذا الثالوث أو جزء منه ليس قدر السياسي وحده ، وإنما هو هدف لكل إنسان، والفرق في مستوى البذل فقط.

إن ناضلتَ من أجل السلطة والاعتبار والثروة داخل مؤسسة أو مستشفى بعقلية الطموح الشخصي وأساليب الإغراء والتآمر, اعتبرْ الأمر من قبيل الشأن الخاص، لكنك في الواقع تمارس السياسة وإن كانت على المستوى الضيق. إن سعيتَ لنفس الأهداف وبنفس العقلية والأساليب على مستوى المدينة والدولة والشعب، صُنِّفت سياسيا وأنت لم تغير إلا مستوى الفعل السياسي الذي يمارس داخل أصغر التجمعات البشرية.

نقطة نظام: يقول قانون واسع التداول إنه لكل قاعدة استثناء. والاستثناء في هذا الصدد أن هناك بشرا لا يسعون للسلطة والثروة والاعتبار، وإنما يضحون بهم من أجل... من أجل ماذا؟ ذلك ما سيتضح في ما يلي.

يصبح السؤال الآن لماذا الصراع الأزلي الذي يستسلم له أغلبية البشر؟

إنه نتيجة حتمية لحالة موضوعية تفرض سلطتها المطلقة على الأشخاص والمجتمعات كما تفرض الجاذبية سلطتها على الأجسام المادية، وأسَمّيها الوضع المحدّد وله ثلاثة مستويات:

الألواح الحاملة: الموارد المادية دائما أقلّ من المطلوب في أي مجتمع، مهما بلغ ذلك المجتمع من رقيّ، سواء بحكم قلتها الطبيعية أو ضعف التقنية أو قصور آليات التوزيع أو ظلمها، مما يجعل الكعكة أصغر من أن تغطي حاجيات كل الجائعين.

أما بخصوص السلطة فلا يوجد إلا منصب واحد للملك وقلة من المناصب لحاشيته، بالقياس إلى عدد الطامعين للأدوار الأولى، مما ينتج توزيعا ظالما للاعتبار حيث تحتكره القلة المتمتعة آنذاك بالسلطة والجاه. هكذا يبرز السلّم الاجتماعي ليخلق صراعا شرسا يضع مَن هم في الأعلى وهمّهم الحفاظ على مركزهم، في مواجهة متسلقين ينطلقون من الحضيض ويمشون على أجساد بعضهم البعض للوصول إلى أولى الدرجات.

ازدواجية الطبيعة البشرية: لو كان للبشر حسّ فطري بالعدل لوجدوا وسيلة سلمية لتوزيع هذه الندرة بكيفية تضمن لكل إنسان حقه منها، لكن المتنبي أعلم الناس بطبيعتهم هو القائل:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلّة لا يَظلم

المشكل أن هذه قراءة النصف الفارغ من الكأس، حيث يمكن معارضة البيت الشهير بقراءة النصف الملآن كالتالي:

والعدل من شيم النفوس فإن تجد ** ذا زلة فلعلّة لا يعدل

انتبه إلى أننا لسنا هنا أمام نوعين من البشر: الطيبون الذين يملكون "جينة" العدل، والشريرون الذين يملكون "جينة" الظلم.. كلنا نتوفّر على "الجينتين".. كلنا نعتمد الظلم والعدل في حياتنا، وفي آخر المطاف ليست الأخلاق واللاأخلاق سوى إستراتيجيتين متوازيتين لتحقيق نفس الأهداف.

"
الخبر المفرح أنه لا دوام لنظام فاسد ظالم عنيف، حيث يبدأ العدّ لنهايته لحظة انتصابه. والمحزن أن العدّ يبدأ لحظة انتصاب أعدل نظام، والظلم الكامن في شيم النفوس يتربص به
"

كل الفرق بين الأفراد أن هناك من يفضّل في مرحلة ما الركون إلى إستراتيجية بدل أخرى، وذلك دون القدرة على التخلص من نقيضها داخله. هذا ما يفسر أن هناك دوما قديسا نائما بعين واحدة داخل أكبر إبليس، وإبليسا نائما بعين واحدة داخل أكبر قدّيس.

ثمة خبران داخل هذه الرؤية: المفرِح منهما أنه لا دوام لنظام فاسد ظالم عنيف، حيث يبدأ العدّ لنهايته لحظة انتصابه. والمحزن أن العدّ يبدأ لحظة انتصاب أعدل نظام، والظلم الكامن في شيم النفوس يتربص به.

أولويات المجتمعات: السعي للثروة والسلطة والاعتبار إذن هدف الأفراد، لكن ما أهداف المجموعة البشرية التي يعيشون داخلها يا ترى؟ المعروف أن خصائص الكل ليست حاصل خصائص الأجزاء التي تكونه، فللمجتمع زمن وخصائص وأهداف غير زمن وخصائص وأهداف الأشخاص.

لنتمعن في أهداف المجتمعات وسنكتشف أنها لا تخرج عن ثلاثة.

إن حب النصر ومكافأة المنتصر ليسا ناجمين فقط عن فتحهما باب إعادة توزيع الأوراق وإعطاء فرصة جديدة للمحرومين، وإنما أيضا وخصوصا لأن النصر ينهي سفك الدماء ويوقف تواصل دفع فاتورة الشقاء. فأولى أولويات المجتمعات حفظ أنفسها من العنف الداخلي والخارجي، حيث لا أخطر منه على الهدف الأول ألا وهو البقاء.

مثل هذا البقاء لا يكون إلا بتحقيق هدفين آخرين يبدوان متناقضين: الاستقرار والتطوّر. لا بدّ من الأول لأنه يمكّن المجتمع من تجميع أجزائه والمحافظة على مقوماته المميزة، لكن قدرا كبيرا من المحافظة يؤدي إلى الجمود وسط عالم متحرّك فيه تحديات جديدة تفرضها الطبيعة والجماعات البشرية المنافسة، ومن ثمّ أهمية الهدف الثاني أي التطور، لتحسين الموجود دون تهديم الأسس والمسّ بالثوابت. كل هذا حتى لا يتحنّط المجتمع بأكثر مما يجب من المحافظة ولا يتفرقع بأكثر بالخطير من التغيير.

المشكلة ضرورة تصريف الحاجيتين المتناقضتين، وهو أمر لا يعرف صعوباته إلا من جرّب السياسة. كم من ملك مسكين أفرط في الضغط على الفرامل فوجد نفسه أمام شعب ثائر ومقصلة تنتظر رأسه، وكم من فيلسوف ثائر اقتضت مصلحة التطور أن يُضحَّى به لأن التضحية عند البشر طقس لا بدّ منه لتنطلق عملية التغيير؟

لتأدية دور المحافظة، تخلق المجتمعات المؤمنين المتعصبين والكهنة والأباطرة وأحزاب اليمين المتطرف والبوليس السياسي.

لتأدية دور التطوير، تُبلوِر المجتمعات الكفار والثوار وأحزاب اليسار والعلوم التجريبية والفنانين الخارجين على المألوف.. إلخ.

للوصول إلى أهدافها، تطلق المجتمعات التنافس بين حاملي لواء التوجّهين، والكل يتصور أنه يعمل لحسابه الخاص وهو يعمل في الواقع لصالح قوى تتجاوزه.

المدرستان

ثمة إذن الأهداف الخفية للمجتمعات -هذه الكائنات الحية الذكية والخبيثة- في السلْم والاستقرار والتطوّر، وثمة أهداف الأشخاص في السلطة والثروة والاعتبار. نحن هنا أمام وضعية شبيهة بعلاقة الحب والنسل. يجري الأفراد وراء تشويق قصص الغرام ولذة الجنس، لكن همّ سنة الله أو الطبيعة تَواصُل الحياة وليس ما يجنيه الأفراد من نشوة عابرة.

معنى هذا أن الثالوث هو أيضا طعم ومكافأة لدفع الأفراد لخدمة أهداف مجتمعاتهم. المشكل هو الانزلاق عندما تنفصل المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة أو تريد تفويضها.

"
عندما تنفصل المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة أو تريد تفويضها, يعطينا في ميدان السياسة الدكتاتوريات التي توزع السلطة والاعتبار والثروة بكيفية تفاقم العنف وتهدد الاستقرار
"

في ميدان الحياة الجنسية يعطينا هذا الانزلاق الاغتصاب والبغاء والاعتداء على الأطفال. في ميدان السياسة يعطينا الدكتاتوريات التي توزع السلطة والاعتبار والثروة بكيفية تفاقم العنف وتهدد الاستقرار وتشلّ كل تطوّر، لأنها تستعمل المصلحة العامة كغطاء لخدمة المصلحة الخاصة.

إنه الوضع الذي تعرفه سوريا اليوم وهي تواجه فظاعة جيش احتلال داخلي همه الأوحد حفظ حق عصابات إجرامية في سلطة زاغت عن وظيفتها الأصلية.

إنها مدرسة كبار اللصوص الذين ندفنهم هذه الأيام -ورمزهم بن علي- وفي مواجهتها مدرسة كبار النفوس -ورمزهم منديلا- التي تسعى لتوزيع الثالوث بأقل قدر ممكن من الظلم، لكي يستقر المجتمع ويتطوّر بأقل قدر ممكن من العنف. ثمة إذن المدرسة التي تجد حلولا للمشاكل، والمدرسة التي توجِد مشاكل للحلول.

هذا ما يعطينا التصور التالي وقد تبلور في ذهن كاتب هذه السطور بصعوبة بالغة، طوال سنين وحتى عقود من التجربة والتفكير:

السياسة فنّ خدمة المصالح الخاصة باستعمال كل الوسائل الأخلاقية واللا أخلاقية للحصول على أقصى قدر ممكن من السلطة والثروة والاعتبار، وذلك بغض النظر عن تبعاتها وتكلفتها على المجتمع، مثلما هي فنّ خدمة المصالح العامة من طرف أفراد يضحون -وبغض النظر عن تبعاتها وتكلفتها عليهم- بكل حظوظهم في جزء من السلطة والثروة والاعتبار، حتى يحقق مجتمعهم ما يسعى إليه من أمان واستقرار وتطوّر.

ليس هذا النص فصل المقال في موضوع لا يستنفد، وإنما اجتهاد قابل للتغيير ما دامت الحياة تواصل إعطاء دروسها القاسية. وعلى كل حال كما قال الإمام الشافعي "هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب".

المصدر: الجزيرة